رأي
د .حبيب فياض
الجمعة 19 أيلول 2025
يتبدّى «القول السياسي»، بتداعياته ونتائجه، في الأبعاد المجتمعية وما يتّصل بها من مجالات على صلة مباشرة بالسياسة وشؤونها؛ غير أن هذا النحو من القول على درجة عالية من التشابك والتعقيد من جهة منطلقاته ونشئياته، إذ تتداخل في إنتاجه مجالات المعرفة كافة بشقيها المنظور والمنجز، وبحدّيها الموجود والمفقود، وببُعديها السالب والموجب؛ وذلك بتوسّط منهج عبر مناهجي تتخطّى فيه المكوّنات حدّ التداخل والتلاقي إلى نحو من الانصهار والتماهي بين كل ما تتشكّل منه الذات الفاعلة، بدءاً من اللغة وتحيزاتها مروراً بالعلوم الإنسانية وفروعها وصولاً إلى الفلسفة وما يكتنفها من ورائيات.
بالعموم، وفي ظل رواج دراسات تحليل «الخطاب»، فإنّ الواقعية تستدعي كون هذا النحو من التحليل ذا طبيعة جزئية في إطار كليانية «القول» حيث لا بد، ولدواع منهجية، من التمييز بينهما (الخطاب والقول)؛ ذلك أن الخطاب هو كلام يراد إيصاله إلى المتلقي بنحو منتظم ومدروس في حين أن القول أقرب إلى انكشاف الذات على مدياتها المحيطة. الخطاب لا يخرج عن كونه ذا هوية نصية يهدف إلى تشكيل وعي المتلقي وفقاً لما يريده صاحب الخطاب، بينما القول هو، بنحو أو بآخر، ذو هوية فعلية يمكن عبرها للمستمع أن يفهم حقيقة صاحب القول.
فالدافع إلى الخطاب خارجي توجيهي على صلة بالمتلقي والمخاطب، بينما الأصل في دافعية القول داخلي توجهي على صلة بالفاعل؛ ما يعني أن الخطاب يعكس أولاً الوجود الظاهري لصاحبه، بينما يعكس القول كل أنحاء الوجود الذي تتشكّل منه الذات الفاعلة أي الخارجي والنفسي والذهني.
على هذا، يمتاز الخطاب السياسي في أنه من الممكن أن يشكل خريطة تضليلية للمتلقي البسيط، يُصار فيها إلى تمويه الذات المخاطِبة، في حين يشكّل القول السياسي مساحة معرفية ممكنة أمام المتلقي الحصيف لفهم القائل كما هو. هايدغر، مثلاً، مارس التمويه في خطابه فكان فيلسوفاً، بينما في قوله كان نازياً مكشوفاً. هايبرماس، من جهته، واجه الحداثة وعمل على تحليلها فلسفياً بما هي قول وليس بما هي خطاب. وحتى سقراط، لفرط شفافيته، كان قائلاً وقولياً عبر حواراته أكثر من كونه خطيباً؛ أمّا أرسطو فقد أطلق تسمية المنطق (الذي يعني النطق بالقول) على فنّ التفكير لكونهما وجهين لحقيقة واحدة.
من هنا يتضح أن الخطاب رسالة فحوائية منمّقة، يُراد إيصالها مع كل ما يمكن أن تنطوي عليه من الحقيقة والتزييف، في حين أن القول هو في الغالب من قبيل تجوهر الذات بموضوعاتها على نحو المقاربة والمطابقة؛ لهذا نجد بأن ثنائية الخطاب تقوم على المخاطَب والمخاطِب، بينما القول يفتقد إلى مثل هذه الثنائية، فلا نقول قائل ومقول بمعنى المتلقي، ذلك أن المقول هنا هو القول ذاته وليس متلقي القول الذي هو المستمع.
ما تقدّم كله لا يستدعي البتة نبذ الخطاب، بل نزع الكلية عنه وإدراجه في خانة فرعية القول؛ ذلك أن الفهم السياسي يتعمّق بالقول وليس بالخطاب، لخصوصية أن مفهوم القول أعم من الخطاب، فمن الممكن أن يكون كل خطاب قولاً ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل قول خطاباً؛ لهذا يبقى الأمر في المجال السياسي ــــــ مع ما يختزنه من خصوصية ــــــ مجتزءاً وناقصاً فيما لو تمحورت محاولات الفهم على الخطاب دون القول.
إلى ذلك، يتقاطع القول السياسي مع القول الفلسفي بوصفهما انبثاقاً جدلياً من ثنائية الذات والموضوع، مع الأخذ في الحسبان كليانية الفلسفة التي لا يضاهيها في الشمول سوى عمومية السياسة، إذ يبدو موضوع هذه الأخيرة المقولي محملاً بأضعاف المحمولات في العوالم الأخرى، وذلك تبعاً لاشتمال السياسة على مختلف مناحي الحياة ومصيريّتها في حياة الأمم والشعوب، ولكونها تتسم بأعلى درجات التحكّم والسيطرة في صناعة التاريخ والزمن، هذا فضلاً عن انصياع العامة وتبعيتهم إلى الساسة على نحو لا يمكن حصوله في غيرها من المجالات.
وكما كل قول، يمكن احتساب القول السياسي فعلاً يتخطى قابلية التحليل إلى الفعلية، سواء اقتصرت فعليته على الكشف عن مكنونات الذات أو تحوّلت إلى فاعلية موضوعية. وقعنة القول السياسي، أي التعامل معه بوصفه واقعاً، مسألة ضرورية تفرضها المساحات النظرية الشاسعة التي تشغلها السياسة في تحيزاتها الفعلية. لذا، يجب أن يقوم التحليل السياسي على فهم الواقع وتتبّع الوقائع القائمة بالقول والفعل معاً، ما يعني أن القول السياسي بحد ذاته يندرج في إطار الوقائع التي يجب الأخذ بها، ليس بما هي حقيقة تعبّر عن واقع موضوعي وحسب، بل بما هي أيضاً فعل مضلل وموارب قد يساعد الكشف عنه على كشف الحقيقة.
ما يعزّز من مركزية القول في الفهم السياسي، ظهوره الدائم في ظل استتار غالب لما دونه من الفعل السياسي؛ فنحن في الغالب على جهل شبه تام بما تخطط له و تقوم به مراكز التخطيط ودوائر القرار، حيث يقوم القول مقام الفعل المضمر ويشكل القناة الأساسية في التتبع والفهم. وحتى الوقائع والمجريات، من قبيل الحروب والأحداث الكبرى، ليست دفعية الحصول بنحو يتخطى مركزية القول، بل هي في جانب منها من نتاجات القول التدريجية بوصفه قولاً وفعلاً وتفكيراً.
ربطاً بما تقدّم، لا بد من التمييز في الفهم السياسي بين الحدث والفعل. الحدث هو الفعل بدلالاته المحدودة والمباشرة، بينما الفعل هو الحدث بأوسع مدياته الكامنة والخبيئة. فهم الحدث يقوم على المنهج السردي التوصيفي، إذ يتم التعامل مع مكونات الحدث كحقائق ومسلمات يتم البناء عليها في الاستنتاجات والتوقعات، بما يفضي في كثير من الأحيان إلى السقوط في فخ النمطية والاستهلاك والبقاء في حال من الدوران حول الموضوع. بينما يقوم فهم الفعل على المنهج التحليلي الذي يعني العودة بالمضمون إلى أبسط مكوناته؛ وبالتالي القدرة على الكشف عن مختلف أبعاده وحقوله الدلالية وجوهره.
غير أنّ التحليل بوصفه منهجاً ليس خطوة نهائية لثقف حقيقة الفعل بأبعادها القصوى (ممثلة بالمفاهيم الكلية)، بل يجب أن يشكّل ذلك مقدمة للانتقال إلى مرحلة البحث السياسي التي تتوسط الانتقال لاحقاً إلى ما يمكن تسميته الفكر السياسي. تفصيل ذلك: ثمة ثلاثة أصناف من الأشخاص الذين يعملون على تحصيل الفهم (والتفهيم) السياسي: المحلل، الباحث، المفكر.
الصنف الأول يعمل على جمع الوقائع اليومية وتتبع الجزئيات وربطها في ما بينها، بما يؤدي إلى خلاصات محددة وتحصيل الفهم على المديات المباشرة والقريبة. بينما الصنف الثاني يرتقي مرتبة في عملية الفهم عبر التخصص في ملفات محددة يقوم بدراستها عن طريق جمع البيانات والمعطيات وربطها وتصنيفها وتحليلها، متجاوزاً بذلك المعطى اليومي والراهن إلى ما هو إستراتيجي وعلى المدى البعيد. أمّا الصنف الثالث فلا يتوقّف عند الجزئيات والتفاصيل والمعطيات الإستراتيجية، بل يتخطّاها إلى تشخيص العلل البعيدة المولّدة للأحداث، وإلى استنتاج القواعد العامة والمفاهيم الكلية (الثابتة والمتحوّلة) التي تتحكّم في رسم المسارات وتحديد المآلات الفاعلة والمصيرية في الإطار السياسي العام.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن الفهم السياسي، سواء بمستوياته التحليلية أو البحثية أو الفكرية، يقوم على مناهج وقواعد محددة وهو ما سنحاول التطرق إليه في مقالات لاحقة.
كاتب وأستاذ جامعي